التشريعات البشرية؟


شاهدتُ مؤخراً فيلم “The Imitation Game“. و إنيّ مذ وقتٍ لم أشاهد الأفلام بنهمٍ كنتُ أشاهدُها فيما سبق.
لا يهمّ.

استند الفيلم في السيناريو على قصة حقيقة. و لم تكن الأحداث فيها مختلَقة، إنما كان بها بعضُ إضافات ليس إلا. أما عن القصة، فكانت حقيقة. و وقعتْ الأحداث المستندة عليها في الفيلم، أثناء الحرب العالمية الثانية.
بعيداً عن ما يحكه الفيلم.
كنتُ أتساءل ما الذي يجعل تشريعات البشر قائمة؟
و هل التشريعات البشرية على الدوام صائبة؟
كيف يمكن لإنسان الحكم على إنسان آخر بالموت بحسب تشريعاته؟.

لا أتحدث هنا، عن الدين. ففي الدين لا جدال و لا نقاش. إنّما أتحدثُ عن الأحكام و التشريعات التي يسُنها الناس فيما بينهم. تلك التشريعات التي تكون مقدسة لديهم في الفترة التي تسنُ فيها. و في وقتٍ لاحقٍ، في زمنٍ بعيدٍ تالي، لا تصبحُ سوى أوهامٍ اختلقها جيل سابق و حديثٌ فارغ.

ما سأتحدثُ عنه هنا جليةً، هو المثلية الجنسية.
*مهلاً، الأمر لا يتعلق بنا، و لا له بالدين علاقة. إنما أتحدث عن ما ذُكر في الفيلم و بعيداً عن كل شيء، ليس إلا. و لا امتدادٍ للأمر في حياتنا بأي شكلٍ كان. فإستبينوا في حكمكم.

Alan_Turing

آلان تورينج، عالم في الرياضيات، و محلل الشيفرات و عالم حاسوب؛ الذي كان له الدور الرئيسي في فك شفرة الإنجما الألمانية النازية التي ساعدت الحلفاء على الانتصار في الحرب العالمية الثانية.
هذا العالِم الذي بشكل أو بآخر، كان له الدور الرئيسي في اختراع الحاسوب بهذا الشكل الذي نراه و في انتهاج فك الشيفرات كعلم قائم بحد ذاته، لقى مصرعه هرباً من تشريعاتٍ بشرية!

البشر، أمرهم عجيب. خاصة أولئك في الغرب، ليس لديهم ما يستندون إليه في أمور حياتهم سوى تشريعاتهم التافهة. أي نعم، معظمهم يميلون إلى المسيحية، علناً. إلا أن الأغلب ما لم يكن الكل لا ينتمون لأي دين من غير العلن. و على هذا، فإن ليس لديهم ما يستندون إليه في أمور حياتهم غير تشريعاتهم و التي يسنونها بأنفسهم. و على أي حال، الدين مفصولٌ عن الدولة لديهم و إن كانوا ينتمون لأيّ دين.
فما إن يظهر في مجتمعهم أمرٌ خارج عن المألوف. يقيمون عليه الحد. و حين تسأل عن أي حد أتحدث عنه هنا، أقول الحد الذي يسنُونه بأنفسهم.

سأجلبُ مثالاً ليتضح ما أرمي إليه من حديثي. و هذا المثال، هو الذي دعاني في المقام الأول للحديث عن كل هذا برمته.
حين شاهدتُ فيلم “The Imitation Game” أشفقتُ على نحوٍ مؤسف على آلان تورينج. هذا العالم الذي لا يمكن لأحدٍ أن ينكر ما قدمه للبشرية. و هذا لا يعنينيّ في هذا المقام.
ما أود قوله، أنه حين أفرغ العالم في وقته، أثناء الحرب العالمية الثانية، عن حاجته لهذا الرجل. تبين لهم أن هذا الرجل ليس إلا من أولئك الذين يصنفون على أنهم مثليّ الجنسية.

ماذا يعني مثلية الجنسية؟
مثلي الجنسية، هو التوجه الجنسي للجنس المماثل لك. فالأنثى تميل جنسياً لأنثى، و الذكر يميل بدوره جنسياً للذكر. و كان العالم آلان تورينج من أولئك.
فمنذ الصغر، كان مختلفاً عن أقرانه. و هذا ليس مسوغاً لميوله الجنسي. إنما بسبب هذا الاختلاف، كان وحيداً على الدوام في صغره. مما كان لا يتبين لأحدٍ أنه من مثلي الجنسية لوحدةٍ كان يعيشها.
إلا أنه في الكبر، حين تزوج، تبين لزوجتهِ و زملائه أنه كذلك، و تكتمُوا على الأمر آنذاك. إلا أن أمره فضح فيما بعد، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية التي كان له دورٌ أساسي في انتصار الحلفاء فيها على الألمان و أتباعهم، افتُضح. و تم الحكم عليه بالإعدام كون أنه مثلي الجنسية. بيد أن الحكم لم ينفذ عليه، لأنه عالم، و كان له دورٌ في انتصار دولته “بريطانيا” في الحرب. و على هذا، خُير بين اثنين. إما أن يتعالج جنسياً. و إما أن يُزج في السجن مدى الحياة.
بطبيعة الحال، اختار آلان تورينج العلاج الجنسي من غير رغبة فيه، إنما هرباً من الخيار الآخرِ، السجن مدى الحياة.
لاحقاً، بعد انتهاء مدة العلاج الجنسي، بما أن الأمر كان علناً و في الصحافة مما أجبره بشكل أو بآخر على إتمام العلاج حتى آخره، لم يعد باستطاعته تحمُل ما يحصل لجسده جراء الأدوية التي كان يتناولها خلال مدة العلاج الجنسي. و إثر هذا، قام بالانتحار فور انتهاء مدة العلاج الجنسي.
المفارقة العجيبة أنه في عام 2013 من الميلاد، عفت ملكة بريطانيا عن آلان تورينج و ما حُكم عليه فيما مضى، لإنجازاته غير المسبوقة للبشرية. رغم أن بريطانيا اكتتمتْ على أمر آلان تورينج برمته و ما أنجزه منذ الحرب العالمية الثانية، حتى ذلك العام. أي ما يقارب الخمسين عاماَ!

لو أن بريطانيا آنذاك، لم يكن في تشريعاتها “البشرية” الحكم بالإعدام على مثلي الجنسية، لما كان مصير آلان تورينج الموت انتحاراً هرباً من حكمٍ كهذا. و لربما كان قد قدم للبشرية شيئاً آخر غير الذي قدمه.
في الوقت الحاضر، و منذ عام 2009 من الميلاد، أعلن وزير الداخلية البريطاني وقتذاك، أن زواج المثلي سيشرع في القانون البريطاني. و سيكون لهم الحق التام في كافة أمور و شؤون الدولة كأن زوجيّن من الجنسين المختلفين.

من المؤسف حقاً أن يكون نهاية آلان تورينج على هذا النحو، و الأشدُ حزناً أن ما كان سبباً في نهايته، مباحٌ الآن و مشرعٌ في دولته و كأنه لم يكن محرماً فيما مضى.
ترى ما الذي كان سيقوله آلان تورينج لو أنه رأى بريطانيا و ما هي عليه الآن من موقفٍ إزاء زواج المثلي؟ أو مثلي الجنسية؟

أتساءلُ حقاً، لأي مدى هي التشريعات البشرية صحيحة؟
كم من التشريعات البشرية أودَت بحيات الناس؟
تلك التشريعات التي تغدو هراءً ما إن يتغلب الطرف الشاذ بكثرته على المُشرعين؟
ثم لأي مدى يحق للإنسان أن يلقي حكم الموتِ على إنسانٍ آخر مثله؟

يدور في رأسي بينما أكتب كل هذا، زمرة الأسد. تلك الزمرة التي تحارب و تخوض معركة مع أي أسدٍ يحاول الولوج لزمرتها أو الاستيلاء عليها. أعني، أية زمرة.
زمرة الأسد الواحدة، ما هي التشريعات التي تحتويها؟ و هل يحق لأي أسدٍ أن يسِن حكماً على أسدٍ آخر بالموت؟ لأيّ سبب؟
بلى يحق له. ما إن يتولى أسدٌ جديدٌ رئاسة و قيادة الزمرة. فإنه يقتل كل الأشبال التي في الزمرة و التي هي من أبٍ آخر، أي أسدٍ آخر غيره. و هذا ليس كرهاً للأشبال أو أي شيء مشابه، إنما لسبب آخر. فاللبوة لا تكون جاهزة للتزاوج إن كان لديها شبل. و لن تتمكن من التزاوج ما إن كان لديها مولود. لهذا، فإن الأسد الرئيس، الجديد، يقتل الأشبال ليتسنى له التزاوج مع اللبوات في الزمرة. و ليس رغبةً في قتل الأشبال لمجرد القتل وحسب.

و ما شأن الزمرة و الأسود فيما كنت أتحدث عنه! عجباً!
ما أرمي إليه، أني حقاً لم أجد في عالم الحيوان مما أعرفه عنها، حيواناً يحكم على الآخر بالموت!
حين أقول هذا، فإنيّ لا أعني بقوليّ أنه ليس ثمة حيوانٌ يقتل حيواناً آخر. بلى، يوجد من هذا الكثير. إنما أن تجتمع حيوانات من ذات الصنف على آخر من ذات صنفهم و يشرعون قتله من غير أي سبب. لا و الله ما وجدت. بيد أني وجدتُ من ذلك الكثير في عالمنا، نحن البشر.

أعود لحديثي. آلان تورينج، هذا العالم الذي أعفِي عن كل ما اتهم به، بعد موته بأعوامٍ مديدة. كيف كان سيغدو لو أنه عاش عمره من غير أن يقْدم على الانتحار؟ و كيف كانت ستغدو البشرية من بعد موته على نحوٍ طبيعي؟

ترى كم من الأشخاص كان لهم من النصيب هذا الظلم الكبير؟
و كم من الأشخاص يوقنون بصحة التشريعات البشرية؟
و كم هم قلةٌ أولئك الذين يعترِضُون على التشريعات البشرية؟

الأمر حقاً مربك. محزن. سفيهٌ سقيم.

 

 

 

 

أضف تعليق