نبع الماء “قصة قصيرة”



عاد شجاع من الصيد اليومي تمام الخامسة والنصف مساءًا دونما أي تأخير؛ ومن غير أي صيد يحمله هذا اليوم كذلك كما وقد إعتاد. عاد إلى المنزل مترقباً لما سيتلقاه من لومٍ وضربٍ إزاء اليدين الخاويتين من عشاء الليلة المنتظر اللتان عاد بهما كما ويعود بهما كل ليلة طوال سبعِ سنواتٍ عجاف من غير إِتقان. بلا حيلة ولا قوة يملكها شجاعٌ ليدرأ عنه كل هذه القسوة التي يعيشها والوجع الذي ينخر قلبه قبل عظامه؛ سرى كهذا في حياته. هذا الفتى الصغير ذو الأربع عشرة عامٍ الذي أجبرته الحياة أن يعيش حياة لم يردهُ ولم يكن ليختره قط.
بيد أنه كما ولم يعاقر شجاع، هذه الليلة من بُد الليال، عاد إلى المنزل في وجسٍ وابتسامة عريضة يخفيهما بينما يتلقى الضرب والذم والصراخ قدر ما يكتفون إثر الوفاض الخاوي الذي عاد به. و حالما توقفوا وابتعدوا عنه لتعبٍ من غير كفاية، هرع مسرعاً نحو الغرفة، لزاويته التي أعد فيها كل شيء فجر اليوم قبل أن يخرج لأجل الصيد المعتاد قُبيل شروق الشمس لطول الطريق إلى البحر.
التقط شجاع الكيس الذي أعده مسبقاً، من على الأرض تحت عريضة الخشب، من غير أن يدير ظهره ولا يلقي نظرة الانتصار تلك التي لمحت في قلبه لمن خلَفهُم وراءه. قفز سريعاً عبر النافذة دون أن يحدث أيّ صوت. كان قد ابتعد عن المنزل قدراً كافياً ليبدو للآخرين وكأنما شبح هو الذي قد ظهر أمامهم، ذموه صارخين به وضربوه من غير كفايةٍ، قبل وقتٍ قصير.

كان بالنسبة لشجاعٍ كل شيءٍ مُعد؛ منذ وقتٍ طويلٍ وهو يخطط لهذه الرحلة، هرباً من هذه الحياة والسنوات العجاف التي نخرت عظامه دونما أية رأفة. وها هو اليوم ذا قد أتم الشروع فيما في رأسه من فكرة وخطة على مدى طويل. لم يتبقى له سوى أن يصل إلى وجهته ناجياً غانماً بابتسامته العريضة بعد كل هذا الذي اجتهد وكافح لأجله خفية.

وبينما شجاعُ يسير، والنشوة في قلبه تتصاعد مقابل الارتجاف الذي يرتخي في جسده مع كل خطوة يتخذها قدماً نحو سعيه، والخريطة بين يديه وعلى مرمى من عينيه، اكتسى كل شيء من حوله بالسواد فجاءةً من غير حسبانه.
انكمش يسيراً على نفسه وعيناهُ تستطلعان المكان الذي لم يألفه من قبل في خطته وفي طريقه على الخريطة؛ ويداه تتحسسان الجدران التي أحاطت به، وأنفه يحاول استكشاف هذا الهواء الذي يبدو وكأن مطراً غزيراً قد كان قبل قدومه بالسقوط.
مُحدثاً نفسه: مهلاً! ارتعش سريعاً، حين افتهم أين يكون هذا المكان. أنا سقطت…
لم يستطع شجاعٌ اكمال جملته التي أخبر به عقله، والذي أصبح جلياً له الآن أين هذا المكان. همس: أنا في حفرة.

رمى الكيس من على كتفه، على الأرض بغيظ. فكر سريعاً تراه كيف له أن يخرج من هذا المكان ليعاود السير قدماً لمسعاه، غير أن فكرة لم تأتيه.
بعدها، تناول من كيسه بضعُ مؤن يستقي منها ويقتاتها ليقضي ليلته خير قضاء يعينه على فكرة ما يصنعُها للخروج من هذه الحفرة غداً في الصباح الباكر. وما إن بلغ كفايته حتى استرخى في المكان على ما يسعه استعداداً للنوم. ومن ثم نام.

في الصباح الباكر، استيقظ شجاعٌ وجسده شبه هالك لا يقوى على الاستقامة من اِعوِجاج سيء نام به بالأمس لضيق المكان. لكن هذا لم يمنعه عن التفكير الطويل في حل ما ليخرج سريعاً دون أن يتأخر في المكان أكثر من ليلة واحدة قد تمت. بيد أن فكرة ما كانت تأتيه. طوال اليوم يظل يفكر، يأكل، يشرب، يفكر ولا فكرة تأتيه. يؤجل التفكير للصباح الباكر علْ نوماً جيداً يعنه في فكرة جيدة ما؛ ليشرع في استعداده للنوم كما كل مساء.

ظل شجاع يفكر والأيام عليه تتعاقب والمؤن منه تقل ولا فكرة كانت تأتيه. وذات مرة، سمع العديد من الأصوات بينما هو في التفكير غارق. حاول أن يعُد سريعاً كم من الأيام قد مضت عليه وهو في هذا المكان ينتظر فكرة لتأتيه كيّ يخرج منه. بيد أنه ما كان سريعاً في محاولة عدِه حين لمِح ظل أحدٍ ما يمر بالقرب من فوهة الحفرة، فسارع بالصراخ: النجدة! النجدة! أنا هنا في الأسفل! أخرجوني!

ظل شجاعٌ يصرخ ويردد كلماته مستنجداً؛ وفي كل صرخة واستنجادٍ كان مدى صوته يقل منشغلاً بِعَد ظلال المارين بالقرب من فوهة الحفرة التي هو فيه؛ إلى أن صمتَ بعد ظلٍ لم يأتي من بعده ظل مارٍ آخر. شعر شجاعٌ حينها باليأس واتجه برأسه نحو الأسفل محدقاً بقدميه وشريطٌ من ما كان عليه في رأسه يسطع. فكر فيما خطط له وما قد حل به. فيما صنعه من حياةٍ في رأسه وكيفما قد عاش هذه الأيام الأخيرة في هذا المكان. ردد من غير حرارة في نفسه: ما تراي فاعِل؟ 

بدأ شجاع يستعجِل في كل شيء حين فطن بأن المؤن التي حملها لأجل الطريق لم يتبقى منها ما سوف يكفيه بعدد الأيام التي قضاها هنا يقتات منها. فتحسس جدران الحفرة بروية هذه المرة، محاولاً إيجاد شيء ما يعينه على فكرة الخروج من هذا المكان قبل أن يموت فيه جوعاً أم عطشاً.
وإذا به يجدُ في احدى جدران الحفرة ما يظهر على شكل مربعٍ ملونٍ وكأنما هو جزء من الجدار الذي هو فيه. وحينما ضغط شجاعٌ على المربع الذي يغطي مساحة تكافئ نصف جسده ما إن يقف أمامه، حتى برز المربع خارج المكان كاشفاً عن معبرٍ بقدر حجمه ما إن سحبه شجاع نحو خارج.
ابتسم للحل الذي قد توصل إليه متمتماً: أخيراً، سأخرج من هنا. ليتني كنت على علمٍ بشأن هذا الممر منذ أن سقطت فيه.
من فورها، بدأ يجمع حاجياتِه ويعيد حزم الكيس جيداً ليبدأ متابعة طريق رحلته حالما يخرج من الحفرة عبر الممر الذي وجده.
وحين شرع شجاع عبور الممر والكيس على كتفه، لم يكن الممر يتسع له والكيس، على هذه الهيئة. وعلى هذا، شرع بدخول الممر أولاً وسحب الكيس برجله من خلفه تالياً. وكان الأمر مجدياً معه هذه المرة، مما بعث في نفسه شيئاً من الطمأنينة التي أزالت عنه خوف الموت الذي راوده قبل أن يجد الممر في الحفرة التي وقع فيها فجاءةً.

على هذا الغرار استمر شجاع العبور وقتاً ظن أن لن ينتهي، لطوله. وإذا به يصل لانسدادٍ بصخرة توقف إثرها. وقبل أن يمس اليأس منه، تنبهَ للصوت الذي قد بدأ يتناهى لمسمعهِ في كل زحفٍ كان يقترب فيه من الصخرة التي تسُد الممر.

اقترب بأذنه من الصخرة الكبيرة يستطلع هذا الصوت الذي لم يفتهم مصدره. وبقرعة من يده على الصخرة، إذا بها تتزلزل ويرتفع الصوت الصادر من خلفها. ومع القرعة الثانية الأشد قوة، تحركت الصخرة بحدّةٍ من مكانها دافعةً شجاع وما جره من ورائه على طول الممر ورذاذ ماءٍ يتناثر على وجهه وجسده، إلى أن ارتطم شجاع بجدار الحفرة مقابل فتحة الممر بشدةٍ والصخرة عليه من بعده.

وما كانت إلا لحظاتٍ قليلة ارتفع من بعدها، صوت أهل القرية المجاورة لنبع الماء إثر خروج الماء من فوهة الحفرة التي قد سقط بها شجاع بينما هو يسير، وخليط من دمه يشوب بعضه في أوله؛ فرحين مهللين.

 

 

أضف تعليق