فرحٌ، فرح. عطرٌ ومرح


منذ طفولتي كنتُ أخاف دائماً من الإسراف في السعادة، آملاً أن أخبئ بعضاً منها لأوقاتٍ أخرى.
مادونا صاحبة معطف الفرو | صباح الدين علي

كنتُ أفعل كذلك. كنتُ أخاف من الإفراط في السعادة.
الإفراط في السعادة؟ أبدًا. كنتُ أخاف من السعادة نفسها. كنتُ حين أشعر بها أتيقن بأنه ثمّة خطأٌ ما. ثمّة لبسٌ في الأمر، وليس من الصحيح أن أخوض في السعادة. هكذا كنتُ في وقتٍ ما. إلى أن تعلمتُ أن المضي في شيءٍ واحد، الإقدام على حياة واحدة، الشعور بشيءٍ واحد وعلى الدوام، لأمرٌ خاطئ.
تعلمتُ التبدّل. تعلمتُ التغيّر.

التغيُّر والتغيير أبجديّة الحياة.
ليس القَسَمُ بالبقاء معًا (حتى يفرّقنا الموت) سوى فنتازيا ضدّ جوهر الحياة.

إليف شفاق | حليب أسود

أتذكرون هذه التدوينة؟
كنتُ حين كتبتُها في غاية الفرح، وكان ذلك بسبب مقالٍ نشر لي على الصعيد العالمي والمحلي، وباسم مستعار. لا يهمّ ما هي هذه المقالة، المهمّ أنّي مذ حينها وأنا أخزنُ تلك الفرحة، لوقتٍ أكون فيها بحاجة ماسة للفرح؛ بالرغم من أني وقتئذ كنتُ في حالة اكتئابٍ شديدة، إلا أني كنتُ متمكنةً من القضاء على الاكتئاب والخروج من زوبعته سالمة غانمة.
جاء اليوم، نعم هذا اليوم الذي أجدني فيه في فرحة عارمة، ولا أدري أين أخزن كل هذه الفرحة لوقتٍ أكون فيها بحاجة ماسة إليها. ولا أريد أن أخزنها لوقتٍ آخر حتى. إذ أنه منذ وقتها، أعني منذ الوقت الذي نشر لي فيه المقالة، وأنا أتنقل بخفة وعلى قدمٍ واحدة بين حقول الفرح. ومن فرط الفرح الذي أنا فيه، أتساءَل، متى سأكون بحاجة للفرح الذي خزنتهُ واحتفظتُ به مسبقًا في مكانٍ آمن. أتراني سأحتاج إليه؟ أم أني سأمضي قدمًا وتمضي الأيام معي دون أن ألتقي به في وقت حاجة؟

الأيام تتعاقب، والمشاعر تتقلب، ومن فرط ما أنا فيه هذه الأيام من مشاعر فيّاضة، أود أن أرمي بكل مخزوني من المشاعر وأوزعه على المحتاجين.
أولئك الذين تتعاقب عليهم الحياة دون تبدّلٍ في مشاعرهم. أولئك الذين تمضي بهم الأيام ولا تبدي لهم غير وجهٍ واحدٍ، لوحدةٍ هم فيه. لفرط حاجة ماسة لحديثٍ ما وثرثرة هم فيه.
أولئك الذين لا يجدُون ما يقولون، ولأنه حين يقولون لا يجدون من يستمع إليهم باهتمامٍ ليقولوا قولهم هذا ويثرثروا بسعادة وسُكْر.
نعم أولئك، أريد أن أوزع عليهم من مخزوني هذا. أود أن يشعروا بالفرح.
لا، أبدًا. الأمر ليس كذلك.
لا أود أن يشعر أحدٌ بالفرح بسببي. ولا أريد أن يشعر أحدٌ بالفرح لمجرد أنّي منحتُه فرحًا من خزانتي. بل أود أن يشعروا بالفرح ليذوقوا طعمًا مغايرًا عما ذاقوه. فبمجرد أن يشعروا بالتغيّر والتبدّل في مشاعرهِم؛ يشعرون بالفرح. سيتبدل حينها شعورهم ومنظورهم للحياة. أيًّا كان ما كانوا عليه قبلًا. سيشعرون بالفرح لمجرد تبدّل مشاعرهم. وهذا بحد ذاته حياة.

الحقيقة لا أدري كيف أكتب وما سَأكتب لأخبركُم عما يثور في داخلي من شدة الفرح الّذي أنا فيه، ولا أدري لِأي سببٍ أنا أشعر كذلك. نعم الكثير من الأمور أفرحتني خلال ساعات وأيام مضتْ، إلّا أني لا أعلم تحديدًا لِم كل هذا الفرح العارم في داخلي.
هنالك المقال الّذي نُشر ليّ. هنالك إرهاصة، وحديثها عني. هنالك القراءة، وأليف شفاق. هنالك الكثير الذي لا أرغب بالإفصاح عنه، أشعرني وَغمرني بالفرح.

فرحٌ، فرح. عطرٌ ومرح.
فلتفرحوا، ولتتبدّل مشاعركم وفيها لا تسكُنوا.
فيضُوا، وفي حالٍ واحدٍ لا تنقَضُوا.
يومٌ، وليلةٌ عارمة بالفرحة للجميع.

لولا طولُ النفس الدناءة، هل كان النوع البشريّ يدوم أكثر من جيل واحد؟
المياه كلها بلون الغرق | إميل سيوران

أضف تعليق